Tuesday, June 2, 2020




عربية كشري

"يا فتَّاح يا عليم يا رزَّاق يا كريم" هكذا يستبشر عم فتحي يوما جديدا طويلا
كالعادة.. فيوم عم فتحي يبدأ قبل كل المخلوقات.. فالساعة الآن تقترب من الثالثة
فجرا.. لكن يبدو أن عم فتحي قد اعتاد حياة الشقاء.. فهو مستيقظ بكل نشاط دون أن
يبدي أي تبرم..

وعم فتحي رجل غريب الخلقة فهو قصير القامة نحيل الجسد ويمتلك رأسا ضخما كبيرا لا يتناسب أبدا مع
جسده.. وهذا الرأس كان سبب متاعب له طوال حياته إذا كان شكله بهذا الرأس يدعو
للسخرية..

يبدأ عم فتحي يومه بإشعال البوابير والتي تسبب الشقاء يوميا له. ثم يبدأ في عمل الأرز والمكرونة
والعدس ثم تحمير البصل وسلق الحمص.. وبعد دقائق يمتلأ المكان بخليط عجيب من
الروائح التي لا تجد منفذا لكي تخرج. فعم فتحي يسكن في بدروم بناية قديمة في حي
القلعة وهذا البدروم لا يحظى بأي نوع من التهوية سوى طاقة صغيرة في أعلى الحجرة..
كل هذه الخطوات وغيرها مجرد استعداد لبدأ العمل.

يخرج عم فتحي من بيته جارا عربة الكشري ليقف في مكانه المعتاد على ناصية الحارة.. بعد أن يكنس
ويرش المياه.. ثم يبدأ الزبائن في التهافت على عم فتحي الذي طالما اشتهر بأنه صاحب
أروع مذاق للكشري.. فكثير من العمال أصبح إفطارهم الرسمي هو كشري عم فتحي.. وهذا
الإقبال ما يصيب عم فتحي بفرح لا يساويه مال.

لكن الفرحة لا تدوم إذا يرى عم فتحي دنجل البلطجي مقبل ويبدو أنه يكن الشر لأحد.. فهو لا يعرف إلا
الشر.. وهنا تتعالى الدعوات ربنا على المفتري" وكأن هذا الدعاء متفق عليه كإعلان لظهور دنجل الفتوة.. وكلما
يقترب دنجل من مدخل الحارة تزيد الدعوات على هذا الدنجل. والكل يتسائل من عليه
الدور اليوم.. من سيضرب أو تقطع لقمة عيشه على يد هذا الفتوة.

لكن بعد وقت قليل تنتهي الأسئلة بوقوف دنجل أمام عربة عم فتحي.. هنا تبدأ كل الحارة في الدعاء
لعل الله يعتق عم فتحي من هذا الشيطان.. أما عم فتحي فقد أنحبس لسانه في حلقه
والكلمات جفت كلها. الشيء الوحيد الذي يفعله هو أن ينظر بنظرات مليئة بالخوف والتوسل.
لكن دنجل لا يعطي أي اعتبار لهذه النظرات ثم يقول بصوت أجش " يلا خد عربيتك وهوينا
من هنا"

هنا تعلو همهمات المشاهدين فدنجل لم يطرد أحدا من مكانه من قبل ولم يجيء على هذا الرجل
المسكين.. والكل ينظر لعم فتحي بتعاطف شديد لكن لا يوجد من يقوى على أن يفتح فمه
بكلمة. فمن يفعل ذلك سيكون مصيره الضرب المبرح.

ويعيد دنجل
جملته آمرا عم فتحي بأن يترك مكانه.. فيرد عم فتحي بكلمات تخرج من بين شفتيه
بصعوبة بالغة سائلا عن السبب.. لكن دنجل لم يعطه جواب سوى بأن يحطم زجاج العربة..

منذ يومها رحل عم فتحي وحل محله بائعة للفواكه.. لم يعرف أحد سببا لما حدث.. كما لم يعرف أحد أين
ذهب عم فتحي.. فحتى البدروم الذي كان يعيش فيه طرده منه دنجل.. وبعد مضي سنين كلما
تأتي سيرة عم فتحي لا تذكر إلا جملة واحدة وكأن الجميع اتفق عليها "ربنا على المفتري".

Friday, October 21, 2011

قصة بلدنا
موهوم من يتخيل أن العبد يخون سيده، نعم نحن توقعنا هذه يوم تخيلنا أن طهطاوي شيخ الغفر منا، ويخاف علينا. كان يرسم على وجهه البراءة في حين كان مبروك العمدة ينهبنا. وعندما كنا نطلب منه أن يقف في صفنا كان يخبرنا أنه يأخذ موقف المحايد حتى لا يخسر عمله كشيخ غفر، فنحن نعرف الزراعة، أنما هو لا يعرف إلا أن يكون شيخًا للغفر.
كان طهطاوي شيخًا وقورًا ذكيًا، كانت مهمته أن يحمينا من اللصوص ومطاريد الجبل لذا كنا نعتبره ستر الحماية لنا وهذا ما كان يعطيه مكانة كبيرة بين شيوخنا، هذا إضافة إلى أنه لم يشترك أبدًا مع صبيان العمدة في عمليات القهر والنهب التي كان يمارسها العمدة.
وتمر الأيام ويترك مبروك العمودية ليسافر للمدينة ويستقر هناك. يوم عرفنا هذا تعجبنا لماذا فعل هذا بمنتهى البساطة؟ لكن لم تسعنا يومها أي فرحة، أقيمت أفراح في بلدتنا أيام وأيام، وزادت أفراحنا يوم أصبح طهطاوي الشيخ الورع التقي حامي حمى البلاد عمدة قريتنا، تخيلنا أن فجرًا جديدًا أشرق على قريتنا.
إلا أننا اليوم تحت قمعين، قمع صبيان مبروك الذين أصبحوا صبيانًا لطهطاوي، وتحت قمع طهطاوي وغفره الذين لا يعرفون الضرب إنما القتل. فطهطاوي ليس إلا واحد من أعوان مبروك. حينها عرفنا لماذا ترك مبروك العمودية بهذه السهولة، فقد ترك فيها يده اليمنى، طهطاوي.

عربية كشري



"يا فتَّاح يا عليم يا رزَّاق يا كريم" هكذا يستبشر عم فتحي يوما جديدا طويلا كالعادة.. فيوم عم فتحي يبدأ قبل كل المخلوقات.. فالساعة الآن تقترب من الثالثة فجرا.. لكن يبدو أن عم فتحي قد اعتاد حياة الشقاء.. فهو مستيقظ بكل نشاط دون أن يبدي أي تبرم..



وعم فتحي رجل غريب الخلقة فهو قصير القامة نحيل الجسد ويمتلك رأسا ضخما كبيرا لا يتناسب أبدا مع جسده.. وهذا الرأس كان سبب متاعب له طوال حياته إذا كان شكله بهذا الرأس يدعو للسخرية..



يبدأ عم فتحي يومه بإشعال البوابير والتي تسبب الشقاء يوميا له. ثم يبدأ في عمل الأرز والمكرونة والعدس ثم تحمير البصل وسلق الحمص.. وبعد دقائق يمتلأ المكان بخليط عجيب من الروائح التي لا تجد منفذا لكي تخرج. فعم فتحي يسكن في بدروم بناية قديمة في حي القلعة وهذا البدروم لا يحظى بأي نوع من التهوية سوى طاقة صغيرة في أعلى الحجرة.. كل هذه الخطوات وغيرها مجرد استعداد لبدأ العمل.



يخرج عم فتحي من بيته جارا عربة الكشري ليقف في مكانه المعتاد على ناصية الحارة.. بعد أن يكنس ويرش المياه.. ثم يبدأ الزبائن في التهافت على عم فتحي الذي طالما اشتهر بأنه صاحب أروع مذاق للكشري.. فكثير من العمال أصبح إفطارهم الرسمي هو كشري عم فتحي.. وهذا الإقبال ما يصيب عم فتحي بفرح لا يساويه مال.



لكن الفرحة لا تدوم إذا يرى عم فتحي دنجل البلطجي مقبل ويبدو أنه يكن الشر لأحد.. فهو لا يعرف إلا الشر..  وهنا تتعالى الدعوات " ربنا على المفتري" وكأن هذا الدعاء متفق عليه كإعلان لظهور دنجل الفتوة.. وكلما يقترب دنجل من مدخل الحارة تزيد الدعوات على هذا الدنجل. والكل يتسائل من عليه الدور اليوم.. من سيضرب أو تقطع لقمة عيشه على يد هذا الفتوة.



لكن بعد وقت قليل تنتهي الأسئلة بوقوف دنجل أمام عربة عم فتحي.. هنا تبدأ كل الحارة في الدعاء لعل الله يعتق عم فتحي من هذا الشيطان.. أما عم فتحي فقد أنحبس لسانه في حلقه والكلمات جفت كلها. الشيء الوحيد الذي يفعله هو أن ينظر بنظرات مليئة بالخوف والتوسل. لكن دنجل لا يعطي أي اعتبار لهذه النظرات ثم يقول بصوت أجش " يلا خد عربيتك وهوينا من هنا"



هنا تعلو همهمات المشاهدين فدنجل لم يطرد أحدا من مكانه من قبل ولم يجيء على هذا الرجل المسكين.. والكل ينظر لعم فتحي بتعاطف شديد لكن لا يوجد من يقوى على أن يفتح فمه بكلمة. فمن يفعل ذلك سيكون مصيره الضرب المبرح.



ويعيد دنجل جملته آمرا عم فتحي بأن يترك مكانه.. فيرد عم فتحي بكلمات تخرج من بين شفتيه بصعوبة بالغة سائلا عن السبب.. لكن دنجل لم يعطه جواب سوى بأن يحطم زجاج العربة..



منذ يومها رحل عم فتحي وحل محله بائعة للفواكه.. لم يعرف أحد سببا لما حدث.. كما لم يعرف أحد أين ذهب عم فتحي.. فحتى البدروم الذي كان يعيش فيه طرده منه دنجل.. وبعد مضي سنين كلما تأتي سيرة عم فتحي لا تذكر إلا جملة واحدة وكأن الجميع اتفق عليها "ربنا على المفتري".